المَبَانِي الْسِّیسْتَانِیَّةُ فِيْ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِیَّةِ(۳):
بقلم:
ماهرٍ الفرحانيِّ الصَّیمريِّ.
التنافي بین فتوَیَيْ سماحة السید السیستاني (متِّع به ذوو الإیمان):
مسألةٌ ذکرها سماحة السید (دام ظلّه) في منهاج الصالحين ، عباراتُها:
((إذا کانت أعضاء وضوئه أو بعضها نجساً فتوضّأ و شكّ بعده في أنّه طهّرها ثمّ توضّأ أم لا، بنی علی بقاء النجاسة إذا لم یکن الغَسل الوضوئي کافیاً في تطهیره، فیجب غَسله لما یأتي من الأعمال، و أمّا الوضوء فیبنی علی صحته و کذلك لوکان الماء الذي توضّأ منه متنجساً ثمّ شكّ بعد الوضوء في أنّه طهّره قبله أم لا ، فإنّه یحکم بصحة وضوئه، وبقاء الماء متنجساً، فیجب علیه تطهیر ما لاقاه من ثوبه و بدنه)).
(منهاج الصالحین ؛ ج ۱ ؛ ص۴۸ ؛ مسألة رقم ۱۵۶)
یبدو لأوّل نظرة یطرحها القارئ علی هذه الفتوی أنّه حصل تنافٍ بین بعض شقوقها بالتقریب التالي:
كيف یمکن أن نحکم بنجاسة الأعضاء المعلومة نجاستها سابقاً والمشکوك تطهیرها بعد الوضوء وبصحة الوضوء في الوقت نفسه؟!!
وکیف یمکن أن نحکم بنجاسة الماء المعلوم والمشکوك کذلك وبصحة الوضوء أیضاً؟!!
أوَ لا یضرّ بقاء نجاسة الماء أو الأعضاء بصحة الوضوء؟!!
فلحلّ هذا التنافي الموهَم لابدّ من العلم ببعض القواعد الفقهیّة والأصولیّة المنطبقة علی المسألة فإن العالم بها لا یمکن أن یُتَصَوَّرَ له مثلُ هذا التنافي:
القاعدة الأولی: قاعدة الاستصحاب الأصولیّة:
وهي قاعدة غیر خافیة علی أهل العلم والتتبّع، مفادُها إبقاء ما کان علی ما کان حُکماً وفیها تفاصیلُ ومناقشاتٌ کجریانها في الوقت المبتني علی الحركة التوسّطیّة أو القطعیّة منها ذُکرت في محلّها لم نکن في صدد تبیینها وهي-قاعدة الاستصحاب- استفیدت من أخبار، منها؛
صحيحة زرارة عن الصادق (علیه السلام) حیث قال :((وَلَا يَنْقُضُ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشَّك)).
(وسائل الشیعة ؛ ج۱ ؛ ص۲۴۵)
وأرکانها الأصول ثلاثة وهي: وحدة الموضوع والیقین السابق والشكّ اللاحق.
القاعدة الثانیة: قاعدة الفراغ الفقهیّة:
من القواعد التي لها دور أساسيّ في بعض أبواب الفقه کالطهارة والصلاة وغیرهما -بناءاً علی شکولیّتها لبقیة الأبواب- هي قاعدة الفراغ المستفادة من أخبار وردت عن أهل بیت العصمة والطهارة (علیهم السلام) منها ما أخذ فیها عنوان ((المضي)) كصحیحة محمد بن مسلم قال سمعت أبا عبدالله (علیه السلام) یقول: ((كُلُّ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِكَ وَطَهُورِكَ فَذَكَرْتَهُ تَذَكُّراً فَأَمْضِهِ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْكَ فِيهِ)).
(تهذیب الأحکام ؛ ج ۱ ؛ ص ۳۶۴)
ومنها ما أخذ فیها عنوان ((الفَراغ)) كصحیحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ((كُلُّ مَا شَكَكْتَ فِيهِ بَعْدَ مَا تَفْرُغُ مِنْ صَلَاتِكَ فَامْضِ وَلَا تُعِدْ)).
(وسائل الشیعة ؛ ج ۸ ؛ ص ۲۴۶)
بناءاً علی کون الـ((ما)) في ((ما تَفْرُغُ)) موصولة حرفیّة مصدریّة مصدرَها المؤوّلَ هو ((الفرَاغ)).
ومنها ما أخذ العنوان فیها ((الخروج)) وفي بعضها ((التجاوز)) وهذا ما سلکه سماحة السید السیستاني (طالت أیام بقائه) تبعاً للشیخ والمحقّق الإصفهاني(رحمهما الله) من أنّها أیضاً دالةٌ علی قاعدة الفراغ والتجاوز -أي- دالةٌ علی الجهة الجامعة.
بعدما وقفتَ علی ذلك فإلیك تطبیقَ القاعدتین علی المسألة کي يتّضح للسائل عدم وجود أيّ تنافٍ بین الفتویین.
وأمّا فتوی سماحته (صانه الباري) بالنسبة إلی الحکم ببقاء نجاسة الأعضاء أو نجاسة الماء فهي مبنية علی قاعدة الاستصحاب حیثُ إنّنا أبقینا حکم النجاسة المتیقّنة الوقوع علی ما کان بعدما طرئ لنا الشكّ بکونها طهُرت بتطهیر أم لا فالاستصحاب مرشد إلی الإبقاء الحُکميّ علی ماکان قبل طرؤ الشكّ.
وإن شئت فعبّر آخر: إنّ النجاسة متیقّنةٌ والتطهیر مشکوكٌ والشكّ لا ینقض الیقینَ أبداً کما اقتضت ذلك أخبار الاستصحاب فتبقی الأعضاء نجسةً والماء کذلك.
وعلیه أفتی جلالته (دام ظلّه) : ((بنی علی بقاء النجاسة)) في الفرض الأوّل و((یُحکم ببقاء الماء متنجّساً)) في الفرض الآخر.
وأمّا فتواه (أیّده الله) بالنسبة إلی الحکم بصحة الوضوء في كلتي الحالتين فهي مبنیة علی قاعدة الفراغ التي اطّلعت علی مفادها من الأخبار المشار إلیها أعلاه حیث إنّ المفروض عروض الشكّ للمکلّف بعد ما فرغ من الوضوء کما صوّر الفرض سماحته (دام مجده) بتعبیره عن ذلك بـ((وشكّ بعده -الوضوء- )) فأفتی بعد تصویره الفرض بالبناء علی الصحة إذ قال: ((أمّا الوضوء فیُبنی علی صحته)) في الأوّل من الفرضین و((یُحکم بصحة وضوئه)) في الثاني منهما.
فالعلم بمباني سماحته يُرشدنا إلی عدم الحکم بالتنافي بین الفتويين.
و الاعتراض علی سماحته بلمیّة عدم تقدیم الاستصحاب علی الفراغ في مثل فرضي المسألة، مردودٌ إذ الوجه في ذلك أنّ المبنی لدیه (دام فضله) هو ورود قاعدة الفراغ علی الاستصحاب ومثلها التجاوز فإنّها مقدمّة علیها والتفصیلُ في محلّه.
وفقکم الله تعالی لمرضاته.
وکَتَبَهُ الْأقَلُّ:
مَاْهِرٌ الْفَرْحَاْنِيُّ الْصَّیْمَرِيّ
۱۴/رمضان المبارك/۱۴۳۸
قمِ الْمُقَدَّسَة