إرضاعُ المرأة طفلَ بنتها ومناقشة فتوى الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ (حفظه الله):
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربّ العالمين.
💠: نظراً لتكثّر الأسئلة في الآونة الأخيرة وانتشار فتوى سماحة الشيخ مكارم الشيرازيّ (دامت بركاته) في مواقع التواصل الاجتماعيّ بخصوص إرضاع المرأة طفلَ بنتها وإيجاب ذلك الحرمةَ الأبديّةَ بالنسبة إلى زوج البنت (أمّ الطفل – بنت المُرضعة) على زوجها -فإن الشيخ مكارم الشيرازيّ (أيّده الله) نفى هذه الحرمة معلِّلاً باختصاص الأخبار المرويّة في هذا المجال بالرضاع الحاصل قبل العقد ولا عبرة به بعد العقد، فلا يوجب هذا الإرضاع الحرمةَ المؤبدة في الفرض المذكور عند سماحته (حفظه الله) وبيّنها قبل أيام في بحثه الخارج كما وصلنا كلامه- فأشير ألى بضع ملاحظات مرتبطة بشأن البحث على نحو الإيجاز. والله المستعان.
۱⃣: الملاحظة الأولى:
📌: موافقة الفتوى المنتشرة لفتوى كثير من فقهاء الطائفة:
ذهب جمعٌ من أعمدة الفتيا إلى إيجاب الحرمة المؤبدة في فرض المسألة منهم؛ الفقيه الفقيد السيد محمد الروحانيّ القميّ (طاب ثراه) وسماحة آية الله الشيخ محمد الفاضل اللنكرانيّ (رحمه الله) وسماحة آية الله الشيخ ميرزا جواد التبريزيّ (قدّس سرّه) وسماحة آية الله الفقيه الأعظم السيد علي السيستانيّ (متّع الله المؤمنين بطول عمره).
وإليك نصّ المسألتين:
📚: المسألة ١٠٦١ : لا فرق في نشر الحرمة بالرضاع بين ما إذا كان الرضاع سابقاً على العقد وما إذا كان لاحقاً له…إلخ.
📚: المسألة ١٠٦٢: إذا أرضعت المرأة طفلاً لزوج بنتها سواءاً كان الطفل من بنتها أم من ضرّتها بطل العقد وحرمت على زوجها مؤبداً لأنه يحرم على أبي المرتضع بنات المرضعة النسبيّات كما مرّ.
فالفتوى معروفة عند ذوي الإفتاء وأصحاب الاستنباط. كما عرفت.
وبناءاً على ما أشرنا إليه أعلاه يتضّح لك: أن ما انتشر أخيراً في الشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل هو موافق لما ذهب إليه مجموع علمائنا وإن خالف ذلك الشيخ مكارم الشيرازيّ (حفظه الله) ففتواه حجة على مقلّدي سماحته (أيّده الله).
۲⃣: الملاحظة الثانية:
📌: الأخبار المرويّة بهذا المورد:
وردت بهذا الشأن أخبار صحاح نوردها كي نقف عليها وقفة متأمّل مدقّق. والله ولي الصواب.
منها: صحيحة علي بن مهزيار، قال: سأل عيسى بن جعفر أبا جعفر الثاني؛ أي: الإمام محمد بن علي الجواد (سلام الله عليه): أن امرأة أرضعت لي صبيّاً فهل يحلّ لي أن اتزوّج ابنة زوجها؟ فقال لي: 《ما أجود ما سألت، من ههنا يؤتى أن يقول الناس حرمت عليه امرأته من قبل لبن الفحل، هذا هو لبن الفحل لا غيره》. فقلت له: الجارية ليست ابنة المرأة التي أرضعت لي، هي ابنة غيرها؟ فقال (عليه السلام): 《لو كنّ عشراً متفرّقات ما حلّ لك شيء منهنّ وكنّ في موضع بناتك》.
(الكافي : ج ٥ – ص ٤٤١ – باب صفة لبن الفحل، الوسائل : ج ١٤ – ص ٢٩٦ – أبواب ما يحرم من الرضاع ؛ باب ٦ – ح ١٠)
ومنها: ما جاء في الصحيح عن أيوب بن نوح، قال: كتب علي بن شعيب إلى أبي الحسن (عليه السلام): امرأة أرضعت بعض ولدي، هل يجوز لي أن اتزوّج بعض ولدها؟ فكتب (عليه السلام): 《لا يجوز لك؛ لأن ولدها صارت بمنزلة ولدك》.
(الفقيه : ج ٣ – ص ٤٧٦ – ح ٤٦٦٨ – باب الرضاع – ح ٨، الوسائل : ج ١٤ – ص ٣٠٦ ؛ أبواب ما يحرم من الرضاع – باب ١٦ – ح ١)
ومنها: ما روى شيخنا الكلينيّ صحيحاً عن عبدالله بن جعفر، قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام): امرأة أرضعت ولد الرجل، فهل يحلّ لذلك الرجل أن يتزوّج ابنة هذه المرضعة أم لا؟ فوقّع (عليه السلام): 《لا تحلّ له》.
(الكافي : ج ٥ – ص ٤٤٧ – باب نوادر في الرضاع – ح ١٨، الوسائل : ج ١٤ – ص ٣٠٧ : أبواب ما يحرم بالرضاع – باب ١٦ – ح ٢)
فالفقيه بعد مراجعته إلى هذه الأخبار المرويّة يخرج بنتيجة كليّة وقانون عامّ وهو كون إرضاع المرأة لطفل الرجل موجباً لحصول الحرمة بينه وبين بقية أولاد المرضعة باشتراكهم جميعاً في اللبن مع وحدة صاحبه.
ومن هنا ينقدح لك وجه القول بحرمة زوجة الرجل حرمة مؤبدة فيما لو أرضعت أمّ الزوجة طفل بنتها؛ لأن الزوجة تكون من أولاد صاحب اللبن، فتحرم على أبي المرتضع الذي هو زوجها.
فهذه الأخبار الثلاثة هي عمدة أدلة المسألة التي استند بها الأعلام على الفتوى المذكورة.
وبعد ذلك كلّه يصل الدور إلى كيفية الاستدلال بهذه المرويّات على المدعى. فهذا التقريب والبرهنة عليه آتيك ضمن الملاحظة الثالثة.
۳⃣: الملاحظة الثالثة:
📌: بيان الاستدلال:
وأما الكلام في إقامة الحجة على الفتوى فقد عرفت أن المستند الأساسيّ والمدرك المحوريّ هو أخبار الباب التي مرت الإشارة إليها آنفاً.
فقد خبرت أن لا ريب في شمول هذه الأخبار لمورد الرضاع قبل العقد فإن أرضعت امرأة بنتاً لرجل فلا يحلّ للرجل هذا التزوّج ببنات المرضعة لكونهنّ حينئذ أخوات المرتضعة من الرضاع وكلّ ذلك من فروع القاعدة الفقهيّة المعمولة اتفاقاً :《يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب》.
وهذا القدر المتيقّن المستفاد من الروايات الواردة.
وإنما الكلام في شمولها لما يقع من رضاع بعد العقد فلو أرضعت امرأة بنتاً لرجل والرجل هذا قد تزوّج بابنة المرأة من ذي قبل فهل يحكم على زوجته بعد الرضاع بالحرمة المؤبدة لصيرورتها حينئذ أختاً للمرتضعة بالرضاع واشتراكها في اللبن.
والمتعيّن في التعليل هو الوجه الثاني ولا يهمنا الآن التطرق إلى ما يرد على الوجه الأوّل.
فذهب الشيخ مكارم الشيرازي (حفظه الله) إلى عدم شمولها بناءاً على الاقتصار على القدر المتيقّن وبقاء الباقي تحت الأصول الأوليّة المأخوذة من العمومات أو إجراء الأصول العملية في غير مورد القدر المتيقن كالبراءة أو الاستصحاب؛ أي: استصحاب بقاء الحليّة بعد الرضاع إن حصل الشك في حصول الحرمة بذلك أو التعليل بكون الحيثية الواردة في الأخبار هي حيثية تعليلية لا تقييدية وغيرها من المباني الأصولية.
وذهب غيره إلى ما هو مشهور المذهب رأياً وفتوي بناءا على تحقق موضوع الحكم في الخارج فكلما تحقق موضوع لحكم في الخارج يترتب عليه أحكامه فإنها تابعة لمواضيعها ومتى ما وجدت (المواضيع) ترتبت (الأحكام). فتدبّر جيداً.
واعتبر ذلك بالمثال الآتي:
المايع الذي كان خمراً وكان نجساً وحراماً شربه، فإن تحوّل خلّاً صار طاهراً ويكون شربه حلالاً، ولو عكسنا الأمر لكانت النتيجة عكس القضية الأولى طبعاً فلو تحوّل الخلّ خمراً صار نجساً ويصبح شربه حراماً.
فالتغيير في النسبة كما تلاحظ هو راجع في الواقع إلى تغيّر الموضوع، نعم لا يمكن ذلك في مثل النسب ولكنه ممكن في غيره مثل العناوين الحاصلة من الرضاع.
۴⃣: الملاحظة الرابعة:
📌: القول الأصحّ في المقام:
بعد المعرفة على مباني الفضلاء وأدلة الفقهاء في الباب فيظهر لك وجه ضعف ما تضمنته المباني الأولية وهي ما ترتبت عليها فتوى الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ (حفظه الله) وغيره من فضلاء الحوزة العلميّة المباركة.
🔸أما التعليل بكون موجب الحرمة هو الرضاع قبل العقد والزواج فمردود؛ بكون ذلك ليس له دخل في تحقق الموضوع في الخارج ولا موضوعية لزمان تحقق الموضوع في البين.
وإن شئت فقل: إن الموضوع أُخذ ظرفاً لحمل الحكم على نحو اللابشرط المطلق العاري عن التقييد بزمان دون آخر.
فبمجرد تحقق الموضوع يترتب عليه الحكم وتنقلب النسبة إلى عكسها تماماً فالزوجة التي كانت حليلة للزوج تصبح محرمة عليه بعد حصول الرضاع الشرعيّ.
والسر في ذلك: أن العناوين الحاصلة من النسب من لوازم الوجود، ولا يمكن انفكاكها عن موضوعاتها، بخلاف العناوين الحاصلة من الرضاع؛ فإنها ليست من لوازم الوجود.
🔸وأما التعليل بكون ذلك القدرَ المتيقّن المستفاد من الأخبار وأما الباقي فيبقى تحت العمومات فمردود أيضاً: بأن إبقاء المشكوك تحت القواعد الأوليّة وما تقضيته الأصول المأخوذة من العمومات إنما يصحّ فيما لم نستطع أن نُثبت خلاف اقتضائها بالأصول اللفظية وغيرها.
ونحن أشرنا ألى كون الموضوع في المسألة مأخوذاً على نحو اللابشرط المجرّد عن القيود. فإن الأخبار ناظرة لجهة الحرمة العامة المتمحورة بمحوريّة الموضوع الذي تدور الأحكام مداره، لا لمورد السؤال الخاص حتى يقال أن تضييق دايرة السؤال يوجب تضيّق دائرة الجواب أيضاً. وسيأتي ما يدلّ على ما ذهبنا إليه إن شاء الله تعالى. فافهم.
ولو سلّمنا -ولم نسلّم- أنه باقٍ تحت العمومات والقواعد الأوليّة فنقول أن ذلك خارج بخطاب خاصّ وجعل مستقلٍّ صادرٍ من الشارع فيكون تخصيصاً لتلك العمومات إن صحّ التعبير. وسيأتيك ما يشير إلى ذلك (صحيحة الحلبيّ) في هذه الملاحظة آخِرِها.
🔸وأما الاستدلال بجريان البرائة في الباقي المشكوك فضعفه ظاهر جليّ لاختصاصها بالشكّ في أصل التكليف من دون وجود أية حالة سابقة لا فيما لو كان هناك علم إجماليّ بالحكم وقد تحققت حالة سابقة قبل طروّ الحالة اللاحقة. وإن كنّا قد التزمنا بغير ما التزمه المشهور من علمائنا الأصوليين في خصوص تحديد الأصل الأوليّ عند الشك ولو كان في أصل التكليف ولم أكن الآن بصدد تنقيح ذلك المبنى. وفي جريانها إشكالات أخر أعرضنا عنها فراراً من إطالة الكلام فيما لا فائدة فيه.
🔸وأما الاستدلال بالاستصحاب فوجه ضعفه ينقدح لك بأدنى تأمّل: فيرد عليه:
أولاً: عدم كون الموضوع واحداً إلزاماً على من يستدل بالاستصحاب على عدم الحرمة فإنه قد أجرى حكم الموضوع المحصّل قبل الرضاع؛ أعني: حلّية زوجة الرجل قبل الإرضاع، على الموضوع المحصّل بعد الرضاع؛ أعني: زوجة الرجل بعد الإرضاع.
فبانهدام ركن أساسيّ وهو اتحاد الموضوع في القضيتين واشتراطه في جريان الاستصحاب ينهدم الاستصحاب برأسه أيضاً.
وإن قيل: لا عبرة بالقيد فالموضوع واحد وهي زوجة الرجل وحكمها المستصحب هي حليّتها السابقة.
فأقول: بناءاً على كون الأصل في القيود احترازية إلا ما ثبت خلاف ذلك بالأدلة والقرائن فينهدم الموضوع المقيّد لخصوصية قيوده المترشحة من الأصل المذكور.
ثانياً: عند توفّر الأدلة المحرزة والمرويّات الثابتة فنحن في غنى عن الاستعانة بالاستصحاب بناءاً على كونها أصلاً فإن الأصل دليل حيث لا دليل.
وتفصيل الكلام في هذا المجال أكثر ولا يخفى عليك ما فيه. وإنما ذكرنا ذلك عملاً بقاعدة الإلزام والمماشاة.
وبعد ذلك كلّه يتجلّى لك: أن كلّ عنوان محرّم حصل من الرضاع بالنسبة إلى زوجة الرجل التي كانت قبل الرضاع زوجة له بالنكاح الصحيح يُفسد نكاحه، كما لو كان هذا العنوان حاصلاً قبل النكاح لكان يمنع عن التزوّج بها.
ووردت رواية بهذا الخصوص فيما روي عن الحلبيّ صحيحاً عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: 《لو أن رجلاً تزوّج جارية رضيعة، فأرضعته امرأته فسد النكاح》.
(الكافي : ج ٥ – ص ٤٤٤ – باب نوادر في الرضاع – ح ٤، الوسائل : ج ١٤ – ص ٣٠٢ ؛ أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب ١٠ – ح ١)
فمقتضى الأدلة -كما عرفت- هو عدم الفرق بين أن يكون حصول العنوان المحرّم والموضوع المنهيّ عنه قبل التزويج أو بعده أو مقارناً له.
وللبحث تفصيلٌ خارج عن إطار هذا المختصر.
✍: وَكَتَبَهُ الْأقَلُّ:
مَاْهِرٌ الْفَرْحَاْنِيُّ الْصَّيْمَرِيّْ
٠٤/جمادى الأولى/١٤٤٠
قُمِ الْمُقَدَّسَةَ