*حرمة نقض الصوم المندوب بعد الزوال*
السلام علیکم و رحمة الله.
الحمدلله ربّ العالمین.
وقع الخلاف بین علماء الطائفة الشیعیّة الحقّة بخصوص إفطار الصوم المندوب بعد الزوال فذهب جماعة إلی جوازه -بمعناه الأخصّ- کالسید السیستاني و الشيخ الوحيد الخراساني (دام مجدهما) وغیرهما وأباحه جماعة أخری علی کراهة کالشهید الأوّل و الشهید الثاني (رحمهما الله تعالی) حیث قال الشهید الثاني (رضوان الله تعالی علیه) في الروضة شرحاً علی اللمعة الدمشقیّة شارحاً عبارة الشهید الأوّل:
((“نعم یکره نقضه بعد الزوال” للروایة المصرّحة بوجوبه حینئذٍ المحمولة علی تأکّد الاستحباب ؛ لقصورها عن الإیجاب سنداً وإن صرّحت به -أي: بوجوبه- متناً)).
(الروضة البهیّة في شرح اللمعة الدمشقیّة : ج۱ : ص۴۱۵ :طبعة مجمع الفکر الإسلامي)
واشتهر بین أصحابنا من الإمامیّة جواز نقضه کذلك.
ولكن يلاحظ علی الفتوی -فتوی الشهید الثاني خاصةً والمشهور عامةً- عدةُ ملاحظاتٍ:
١): الملاحظة الأولی:
تظافرت الروایات الحاکیة عن جواز الإفطار في الصوم المندوب بعد الزوال في کتبنا الروائیة منها وسائل الشیعة للحرّ العاملي (علیه الرحمة) بحدّ اختصّ العاملي باباً بها وسمّاه:
“باب أنّ من نوی الصوم قضاء شهر رمضان جاز له الإفطار قبل الزوال مع سعة الوقت لا بعده ومن نوی صوماً مندوباً جاز له الإفطار متی شاء ویکره بعد الزوال وحکم النذر”.
نذکر منها مثالاً یخصّ ما نحن فیه:
((مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ جَمِيلٍ بْنِ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: فِي الَّذِي يَقْضِي شَهْرَ رَمَضَانَ- إِنَّهُ بِالْخِيَارِ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ- فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعاً فَإِنَّهُ إِلَى اللَّيْلِ بِالْخِيَارِ)).
(وسائل الشیعة : ج۱۰ : ص : ۱۶)
فکما ترى صرّحت الروایة بجواز النقض بعد الزوال إن کان الصوم ندبیّاً و-بتعبیرها- تطوّعاً.
وأمّا ما نریده ملاحظةً علی الفتوی فهو:
لو سلّمنا أنّ الروایات قد تکاثرت في المقام، لکن هناك روایة في آخر هذا الباب تشیر بل تصرّح بوجوب الإمساك بعد الزوال في الصوم المندوب فلنتوقّف عندها معاً:
((وَعَنْهُ عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ وَ سَعْدَانَ عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيّاً علیه السلام قَالَ: الصَّائِمُ تَطَوُّعاً بِالْخِيَارِ مَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ- فَإِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ فَقَدْ وَجَبَ الصَّوْمُ)).
وبناءاً علی ما قاله الشهید الثاني (رحمه الله) بقوله : الروایة مصرحة بالوجوب ویقصد بالوجوب، الشرعیَّ منه، یجب الإمساك بعد الزوال إن کان الصوم مندوباً غیر أنّ الشهید (رضوان الله علیه) سدّ باب القول بالوجوب بإسقاطه الروایة لوجود ضعف فیها، سبب وقوع “مسعدة بن صدقة” في سندها وأضاف فاضلاً: “للروایة المصرحة بوجوبه المحمولة علی تأکّد الإستحباب ؛ لقصورها عن الإیجاب سنداً”.
فعلیه: لا مجال للقول بالوجوب”حینئذٍ”.
وقصور السند لکون مسعدة بن صدقة عامیّاً کما صرّح به الشهید الثاني في المسالك حیث قال: ((و الراوي مسعدة بن صدقة وهو عاميّ)).
(مسالك الأفهام : ج۱۱ : ص۴۸۲)
فنقول بعون الله ولطفه:
أوّلاً:
اشتبه الأمر علی کثیر من علمائنا الکرام الفضلاء شخصیّة “مسعدة بن صدقة” إذ المعروف منه شخصان، أحدهما من أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) والإمام الکاظم (علیه السلام) والآخر من أصحاب الإمام الباقر (علیه السلام) فاتُّهِم کلٌّ منهما بکونه بتريَّ المذهب -الذین دعوا إلی ولایة علي (علیه السلام) ثمّ خلطوها بولایة أبي بکر وعمر ویبتغون لهما إمامتهما- فلذا أُسقط کثیر من روایاتهما بینما النظرة التحقیقیّة تقتضي أن نفصّل بین الشخصیّتین حیث الأوّل -أعني- الذي من أصحاب الإمام الصادق وأبی الحسن (علیهما السلام) کان من الموثّقین عندهما وممن وثقه کبار علماءنا الرجالیین وغیرهم، کقول صاحب روضة المتقّین المجلسي الثاني والشیخ النجاشي والعلامة المامقاني والسید الفقیه الخوئي والشیخ الطوسي (رحمهم الله تعالی) فیه -للمزید من البحث یمکنکم الرجوع إلی رسالتنا في نبوّة آدم (علیه السلام)- والعجب من سماحة المرجع السید محمد سعید الحکیم (دام فضله) حینما یصل لشخصیّة مسعدة بن صدقة یقول فیه:
أمّا السند فقد یضعف لعدم النصّ علی توثیق مسعدة بن صدقة فلا مجال للاعتماد علی روایته و لا سیّما مع عدّ الکشي إیّاه بتریّاً وعدّ الشیخ إیّاه في کتابه في أصحاب الباقر (علیه السلام) عامیّاً. انتهی.
(الفوائد الرجالیّة من مصباح المنهاج-للسید محمد سعید الحکیم : ص۱۳۶)
وإن کان السید الحکیم (دام ظله) یعتبر روایاته باعتبار آخر فلیراجع المتتبّع الکتاب.
و لا یخفی علی المدقّق الفاضل: أنّ الذي عُدّ من أصحاب الباقر (علیه السلام) محکوماً علیه بالبتریّة، لا توجد منه روایة أصلاً فلا مجال للتشکیك والتردید في وثاقة الثاني منهما ؛ أعني: الذي عُدّ من أصحاب الصادق و الکاظم (علیهما السلام) فتثبت وثاقته والأخذ بروایاته معلّلاً بعدّة علل:
١)کثرة الروایة عن مسعدة بن صدقة من قبل علماءنا وفقهاء الإمامیّة القدماء.
٢)اعتبار روایاته عند الأعلام.
٣)الإتیان بروایاته من قبل أعلام الإمامیّة دون قدح وطعن في شخصيّته.
٤)استنباط الفتاوی الشرعیّة من روایاته الصادر من علماء الشریعة المقدّسة کالّتي یستشهد بها السید المرجع السید السیستاني والسید محمد سعید الحکیم (دام ظلّهما الوارف) في بعض مجالات بحوثهما.
٥)توثیق الرجالیین في حقّه کالمجلسي الثاني والسيد الخوئي (رحمهما الله).
فيا ترى بعد ذلك:
كيف يحكم الشهيد الثاني ومن تبعه علی الروایة وکیف یکون استنباطه من الروایة المصرّحة بالوجوب الموثقّة حینئذٍ؟!!
انتهت الملاحظة الأولی بإثبات وجوب الإمساك في الصوم المندوب بعد الزوال.
٢): الملاحظة الثانیة:
هل یصحّ الحکم بوجوب الإمساك والقول بحرمة نقضه بعد الزوال أم لا؟
الجواب:
لا یصحّ ذلك قطعاً لعدّة أسباب:
١): الأوّل: عدم عمل الأصحاب بالروایة القائلة بالوجوب الموجب لضعف الخبر کما اشتهر عنواناً في علم الأصول وإن کنا لا نعتقده (کما لا یعتقده الشهید الثاني) -خاصةً- في مجال بحثنا المذکور ولنا حجتنا والبرهان فیثبت ضعف هذا الدلیل، والله العالم.
٢)الثاني: الفرق بین الوجوب الاصطلاحيّ والوجوب اللغويّ في الروايات الشريفة وهذا الدلیل خیرُ ما رأیناه نافعاً في نفي وجوب الإمساك بعد الزوال إن کان تطوعاً بحیث لو ثبتت لنا صحة الخبر المرويّ عن مسعدة بن صدقة -کما أنّها کذلك- فلا مفرّ من القول بالوجوب إلّا أن نفرّق بین الوجوب اللغويّ والاصطلاحيّ منه و العجب ممّن اشتبه علیه اللفظان فخلط بینهما وبمجرد وقوع نظره علی روایة تشتمل علی کلمة “الوجوب” أفتی بلزوم إمثتاله وحرمة ترکه.
بینما دقة النظر تقتضي أن نقول:
الوجوب اللغويّ بعد انتقاله إلى دائرة مصطلحات الشریعة وصیرورته لفظاً شرعیّاً سیکون لهه ظهور ودلالة کظهور لفظ الأمر في الوجوب والنهي في الحرمة مثلاً ولا فرق بینها فکذلك لفظ الوجوب في معناه اللغويّ یدلّ علی اللزوم ولکن في الشريعة الغرّاء دلالته الظاهرة في اللزوم لا نصّ فیه له وعليه يمكن لنا حمل الوجوب الشرعيّ علی الاستحباب بمعونة القرائن الحالیة والمقالیة کما هو الأمر في مبحث ظهور الأمر والنهي في الوجوب والحرمة الشرعیّین مثلما هو البحث في الرواية المستشهد بها. -راجع کلمات الأصحاب فیها-.
إذن بناءاً علی ما نقل لا دلیل علی إثبات وجوب الإمساك بعد الزوال في الصوم المندوب مع تعاضد الروایات وتکاثر الأخبار علی جواز ذلك وتحمل الرواية علی تأکّد الاستحباب.
وللبحث تفصيل أکثر، أتینا به في محلّه.
والله تعالی العالم.
✍: وَكَتَبَهُ الْأقَلُّ:
مَاْهِرٌ الْفَرْحَاْنِيُّ الْصَّيْمَرِيُّ
٠٢/ذي الحجة الحرام/١٤٣٧
قمّ المقدّسة